فُطر الإنسان على حب الأحسن والأجمل والأفضل في كل تفاصيل حياته, فهو توّاق إلى الكثير من الملذات والممتلكات والمكتسبات، التي تشغل فكره ووجدانه، ولمعرفة الله تعالى بفطرة الإنسان التوّاقة، واحتياجاته النفسية والبدنية والعقلية وضع مالك الملك -عز وجل- ثمناً لكل شيء ولأي شيء في هذه الدنيا ولما بعدها، ولكي يحقق الإنسان مراده، ويعانق الإنجازات فلابد أن يدفع الثمن.
تلك هي حكمة الله -عز وجل- وهذه هي المعادلة الإنسانية التي لا يمكن أن تتغير أو تتبخر، فهي سنة الأولين والآخرين منذ أن خلق الإنسان وبدأت رحلته على هذا الكوكب. ونحن أمة عظيمة صاحبة تجربة وخبرة؛ فقد عوّدها رسولها المصطفى -عليه الصلاة والسلام- بسنته وسيرته، على الاستفادة من التجارب والمحن، وتقلّب الزمن، وتكالب الأعداء، وتحديات الواقع والمستقبل، وأرسى لنا قواعد الإيمان والاطمئنان، وأعطانا مفاتيح المجد والعزة والنصر والتمكين، وترك لنا بعد ذلك الخيار: نعمل أو لا نعمل!!
لم نُخلق عبثًا
فكل خيار له تبعات وله ثمن، والعاقل خصيم نفسه، والسعيد من اتعظ بغيره، والتعيس من اتعظ الناس به. ونحن لسنا طلاباً فاشلين في مدرسة الحياة، نقتات من فضلات الأمم والشعوب الأخرى، أو مخلوقات مجهولة الهوية وُجدت صدفة في هذا العالم بلا هدف أو مرجعية أو عنوان!! فلم نُخلق عبثاً، ولم يرد لنا أن نعيش هملاً تائهين على قارعة الزمن بلا خريطة أو مسار، ويقول تعالى:(وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). [آل عمران:139].      
أكتب هذه الكلمات وأنا استشعر فرحة النصر والتمكين لإخوتنا في غزة، الذين رابطوا وصدقوا الله فصدقهم الله وعده, قدّموا كل شيء فداء لهذه الأمة، ولم يكونوا إلاّ كما أرادهم الله تعالى عندما وصفهم فأحسن وصفهم، وأنزلهم المنزل الذي يستحقون.
إن الصمود عنوان للإيمان، والصبر ترجمة لقوة العلاقة مع من لا يغفل ولا ينام عز وجل، وعلى الرغم من تكالب الظروف وسوداوية من يرى الموقف ببصره وليس ببصيرته، فقد راهن المؤمنون على أن الله لن يخذل عباده الصالحين الصادقين القانتين، وأنه سبحانه يعزّ من أعز الدين ونصره، ويذل من خذل الدين وركب هواه وهوى من آواه!!
المدرسة المحمدية
وحتى لا نكون كمن يتكلم من وجهة نظر واحدة، فلننظر إلى ما قاله النقيب الإسرائيلي مبكي, قائد سلاح المدرعات عن أجواء غزة وتفاصيل المواجهة؛ إذ قال: “إنها حرب أشباح لا نرى مقاتلين بالعين المجردة.. إنهم سرعان ما يندفعون لنا من باطن الأرض.. إننا نمشي على الأرض، ثم فجأة يخرج علينا فدائيون أشباح فينقضون علينا.. لقد دبّ الذعر في جنودنا من هؤلاء الأشباح”.
إننا طلاب هذه المدرسة المحمدية في رسوخ الإيمان، وصدق المعتقد، وصفاء النية والصمود الذي ولد النصر, والصبر الذي ولد المجد، والمراهنة الدائمة على أن ما عند الله أبقى، وهو لا يفنى، وأنه سبحانه وتعالى أعز جنوده أهل طاعته. إن محنة غزة والتي قلبت -ولله الحمد-  بأيدي الصادقين الصامدين الصابرين إلى منحة كفيلة بأن تجعلنا منذ هذه اللحظة نراهن على علاقة قوية مع ملك السماوات والأرض، وأن نكون توّاقين للخير والبر والصلاح وعمارة هذه الأرض بالعلم والعمل، وبكل ما يسرنا أن نراه يوم نلقاه، حفاة عراة، نرجو رحمته ونخشى عذابه.
طاقة جبارة
إن الإنسان يحمل طاقة جبارة سخرها الله له لكي يعمر الأرض، وينشر الخير، ويحارب الشر، ويسعى للإصلاح، ويكون مشعل نور أينما حلّ، وأينما ارتحل، ونحن نتعلم كثيراً من إخوتنا في فلسطين؛ فهم مثال يُحتذى، ونموذج يستحق كل الإكبار والاحترام، وشعب الهمة والصمود وقهر الظروف والثبات على المبادئ حتى الممات، ولا غرابة في ذلك على من أوكل الله لهم هذه المهمة المفصلية، فهم حرّاس القدس وأهل رباط إلى يوم القيامة.
إن أهل فلسطين صنعوا التحدي في كل شيء، وحققوا النجاح والتفوق على الرغم من صعوبة الظروف، وقسوة الواقع، وسوداوية المشهد, فعلى الرغم من كل الظروف الصعبة والحصار والتجويع والتهجير، والحروب المتكررة تحتل دولة فلسطين المركز الأول كأقل نسبة للأمية في العالم العربي بدوله الاثنتين والعشرين؛ فقد بلغت نسبة الأمية حوالي 6.5% فقط بينما متوسط الأمية في العالم العربي هو 35.6%. 
فهل نكون طلاباً في هذه المدرسة نتعلم منها أن لهذه الحياة مفاتيح لو أخذنا بها لفتحت لنا جميع الأبواب، واستقرت لنا كل الطموحات، وتحوّل الحلم إلى حقيقة، والعجز إلى حركة، والضيق إلى سعة، واليأس إلى أمل، والدموع إلى بسمات؟!
فما الصبر إلاّ جسر للفرج، وما الإيمان إلاّ ترياق للحياة،  وعليه فطاعة المولى وحسن الارتباط به والإحسان لخلقه هي السعادة الباقية،  وسر النصر والنجاة والخير والثبات.

 
Top